كيف تعرفت علينا ؟ : أحلى منتدىعدد المساهمات : 1966نقاط : 118715الموقع : حيث لا اكون البطاقة الشخصية نسبة أحترام العضو للمنتدى: (100/100) رقم العضوية: 1
موضوع: رح ذاكــــر!!رح الأحد مارس 04, 2012 8:57 pm
رح ذاكــــر!!
مهارات التفكير لا تأتي بين عشية وضحاها. فهي مثل القراءة والكتابة تحتاج إلى وقت وجلد ومثابرة وأدوات لإجادتها وممارستها على نحو إيجابي ومؤثر. سلوك يفترض أن ننميه منذ الصغر
ربما تكون "رح ذاكر" أكثر عبارة يسمعها أطفالنا. نمطرها على مسامعهم صباحا ومساء. صيفا وشتاء. أثناء دوامهم وحتى في إجازاتهم. فقد صارت تتزحلق من أفواهنا تلقائيا كلما شاهدنا أطفالنا يعبرون أمامنا أو يدلفون نحونا.
من حسن حظنا أن الأمريكي ويليز هافيلاند كارير، المولود في 26 نوفمبر 1876، لم يسمع هذه العبارة. الحمدلله أنها لم تهطل على رأسه وإلا لكنا في عداد الغرقى في وحل العرق.
فويلز، مخترع مكيف الهواء، استلهم عشقه للاختراع والاكتشاف من والدته إليزابيث الشغوفة بالرياضيات وإصلاح الأدوات والمعدات في المزرعة التي تقطنها. فهي ومنذ نعومة أظفاره كانت تشركه معها في حل المسائل الرياضية. وتسأله أن يفكر معها لإصلاح ماكينة الخياطة أو ساعة والده اليدوية. وقد أرجع ويلز مرارا الفضل لها في اختراعاته. وقال في مقابلة أعادت نشرها النيويورك تايمز في احتفالها بمرور مئة عام على اختراعه: "لا أجد مبررا لنجاحي سوى أمي. كانت تحفزني للتفكير والبحث عن إجابات".
فلا يتذكر كارير، الذي توفي في 7 أكتوبر 1950، أن أمه قد سألته قط أن يأكل أو يذاكر. بيد أنها كانت تسأله بإلحاح أن يفكر ويفكر. هذا التفكير هو الذي جعلنا ننعم بالهواء البارد في القيظ. هو الذي جعل اسم ويلز الأخير يصبح (علامة تجارية) تدخل ملايين المنازل من المحيط إلى المحيط. وأن تصل مبيعات شركته (كارير) في عام 2007 إلى أكثر من 16 مليار دولار أمريكي، ويعمل بها نحو 45 ألف موظف.
وحينما نال الأمريكي الدكتور دوجلاس نورث، المولود في 5 نوفمبر عام 1920، جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1993 شكر والده كثيرا. وقال إنه ساعده على الاستقلالية. فعندما يسأله أي سؤال لا يجيب عليه بل يقول له: "فكر، وتعال لاحقا بعدة إجابات، ومن ثم سأرشدك إلى الجواب الصحيح". ويرى الدكتور نورث أن تلك الجملة التي بدت له "فجة وفظة وقبيحة" عندما كان طفلا فتحت له أبواب المجد والنجاح. جعلته يألف البحث والتنقيب والاستكشاف قبل أقرانه. جعلته يعشق القراءة والتفكير والنقاش مبكرا. ويعترف الدكتور دوجلاس أن المهارات البحثية التي اكتسبها صغيرا ساهمت في نجاحه طالبا وأستاذا. وقد مر على الدكتور دوجلاس مئات العلماء والباحثين. لكن كانت كلمات والده الأكثر تأثيرا ودويا في مشواره البحثي الطويل والوعر. يقول: "أمي وأبي لم يحصلا على الثانوية. لكن نصائحهما أعظم من نصائح أساتذة يحملون درجة الدكتوراه".
لذلك ينصح دوجلاس دائما طلابه بعدم ازدراء أي نصيحة أو فكرة لأي سبب. يقول: "فكروا بها قبل رميها أو الاحتفاظ بها".
إن البون الشاسع بيننا وبين الدول المتقدمة يعود إلى ثقافتنا التي اعتادت الحفظ والتلقين دون الاهتمام بالتفكير الذي يعد وقود الإبداع ومحرك الإنجاز. يقول الفيلسوف الصيني، كونفوشيوس: "لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر". مهارات التفكير لا تأتي بين عشية وضحاها. فهي مثل القراءة والكتابة تحتاج إلى وقت وجلد ومثابرة وأدوات لإجادتها وممارستها على نحو إيجابي ومؤثر. سلوك يفترض أن ننميه منذ الصغر إذا أردنا مجتمعا معرفيا ومنتجا. العبارات البراقة والشعارات الهائلة التي نرفعها في الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات لن تترجم إلى واقع ملموس إلا إذا بدأنا في غرس مفاهيم التفكير في منازلنا ومدارسنا مبكرا. والتفكير ليس مجرد كلمة نرميها في وجوه أطفالنا ثم ننصرف. إنه يتطلب بنية تحتية من نقاشات وكتب وإجابات تحيط بالطفل وتساعده على تنمية تفكيره وأفكاره. فالكهرباء لا تعمل دون تمديدات ومرافق. والطفل لا يضيء بلا كتب ومعارف يلمسها ويكتسبها من محيطه. مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة. وخطوتنا الأولى يجب أن تبدأ باقتلاع "رح ذاكر" وشقيقاتها من العبارات التي ورثناها كابرا عن كابر من قاموسنا. فهي لا تجلب اختراعا ولا اكتشافا ولا معرفة. تجلب شهادة صماء تضيف المزيد إلى قائمة النمطيين والتقليديين، إلى ضحايا أساليبنا التربوية، الذين صادرنا عقولهم وعطلنا تفكيرهم لعقود طويلة. طويلة جدا.